
في تاريخ الخلفاء من عهد النبي
إلى نهاية الدولة العباسية
37- المستعصم (1)
640 - 656 هـ (2)
لَقَبُهُ المُسْتَعْصِـمُ بِـاللهِ
وَبَعْدَهَا مَاتَ قَلِيْلاً، وَ اسْتَتَمْ
إِذْ أَضْرَمَ التَّتَارُ في الأَسَاسِ(4)
عَادَتْ رَزَايَاهَا عَلى بَغْدَادِ
وَمَاْ يَمُرُّ عَبْرَهَاْ فَهْوَ عِبَرْ
وَمَنْ عَصَىْ فَهْوَ مُهَانٌ وَشَقِيْ
يَوْمَ الحِسَابِ رَحمَةً في الآخِرَهْ
أَتَىْ أَبُوْهُ أَحمَدْ عَبْـدُ اللهِ
عَشْرَةُ أَعْوَامٍ وَسِتَّةٍ حَكَـمْ(3)
بِقَتْلِهِ حُكْمُ بَنيْ العَبَّاسِ
وَعَمَّتِ اِلفِتْنَةُ في العِبَادِ
وَهَكَذَاْ الدُّنْيَا سُرُوْرُهَا كَدَرْ
وَالفَوْزُ فِيْهَا مِنَّـةٌ لِلْمُتَّقِـيْ
مَنْ يَزْرَعِ اِلصَّلاحَ يحْصُدْ ثمَرَهْ

دينار المستعصم بالله ضرب: مدينة السلام سنة الضرب:645 هـ الوزن: 11.04 غرام القطر: 26.5 ملم
مركز الوجه:
الامام
لا إله إلا الله
وحده لاشريك له
المستعصم بالله
امير المؤمنين
بنصر الله
الهامش الداخلي: بسم الله ضرب هذا الدينار بمدينة السلام سنة خمس واربعين وستمائه
مركز الظهر:
الحمد لله
محمد
رسول الله
صلى الله عليه
وسلم
الهامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
(1) هو أبو أحمد عبدالله المستعصم بالله ، بن منصور المستنصر بالله بن محمد الظاهر بأمر الله بن أحمد الناصر لدين الله بن الحسن المستضيئ بالله ، ابن يوسف المستنجد بالله بن محمد المقتفي بأمر الله . ابن الفضل المسترشد بالله بن أحمد المستظهر بالله . ابن عبدالله المقتدي بأمر الله بن محمد بن عبدالله القائم بأمر الله بن أحمد القادر بالله بن الأمير اسحاق ابن جعفر المقتدر بالله بن أحمد المعتضد بالله ، ابن الأمير طلحة الموفق . بن جعفر المتوكل على الله ، ابن محمد المعتصم بالله . بن هارون الرشيد . بن محمد المهدي . بن عبدالله أبي جعفر المنصور بن محمد ابن علي بن عبدالله بن العباس رضي الله عنهما.
(2) بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة (البداية والنهاية 13/159). قتلته التتار مظلوماً مضطهداً في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة (البداية والنهاية 13/204). وفي تلك السنة أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها وانقضت دولة بني العباس.
(3) وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياماً، وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر (البداية والنهاية 13/205).
(1) قال ابن كثير رحمه الله: استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليه أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانع لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئاً، كما ورد في الأثر: ( لن يغني حذر عن قدر ) (أ). وكما قال تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، وقال تعالى : وإن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال . وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه،وكانت من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عد ذلك بزيادة الاحترازوكثرت الستائر على دار الخلافة – وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائة ألف مقاتل – إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكو كلما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه هدايا سنية ليكون ذلك مداراةً له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار فيما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه و لا بالى به حتى أزف قدومه و وصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لايؤمن بالله ولا باليوم الآخر فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس.
وهم بقيادة الجيش، كلهم قد صرفوا عن اقطاعاتهم حتى استعطي كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً،فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم.
وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وصحبته خوجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لايستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي،وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير.
فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فقتلوه رفساً وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، فخافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل: بل خنق، ويقال بل أغرق فالله أعلم، فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء و القضاة والأكابر والرؤساء و الأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات يغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلـة وقلـة.
وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبقى سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنَّة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء المفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة و القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار {حوشكاش: مطاوعاً ومحرضاً التتار على المسلمين (المعجم الوسيط 1/214)} بعد أن كان وزيراً للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء. وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز حيث يقول ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراًفإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ) الآيات.وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعدما كان معموراً بالعباَّد والزهَّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة. فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف،وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفِّي قبره، وكان عمره يومئذٍ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبوالعباس أحمد وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبدالرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة عبدالله وعبدالرحمن وعبدالكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنَّة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عِلْمَهُم وعَلَمَهُم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا - والله أعلم – بالدرك الأسفل من النار.
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى. وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد من جمادى الأولى من هذه السنة – ست وخمسين وستمائة – إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخر عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة من الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعياً جلداً رافضياً خبيثاً، فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة. وذكر أبوشامة وشيخنا أبوعبدالله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام والله أعلم. أ.هـ. (البداية والنهاية 13/200-204).
وانظر (تاريخ الخلفاء 467 – 475)، (التاريخ الإسلامي 6/345 – 362).
